رحيل بحجم وطن
بقلم : محمد رمضان
كثيراً ما يكون المرء قادراً على سبك الكلمات وترتيبها حينما يُسطر بقلمه
لحالة عامة قضية سياسية كانت أوإجتماعية لكن حينما تكون الحالة موضع
الكتابة تخُص الكاتب نفسه تتلعثم العبارات وتتناثر الأحرف فيصعب لمُها لوصف
الحالة الإنسانية المُعايشة! والسبب هوأن الفرد منا يعيش حالته بنفسه
ويكتوى بنار الحُزن فى أعماق نفسه باكياً من الداخل فيكون عاجزاً عن
التعبير..
وحينما يكون المفقود أمُ قامت بمهام التربية فى أسرةٍ
مناضلة وفى حياة لُجوء، يكون الجُرح هنا أعمق والبُكاء أحر والرثاءُ
مُختلفُ ومُتداخل، وسر الإختلاف هنا هو صُعوبة الحياة التى تعيشُها الأم
الإرترية قساوةً وشدة مع حالة اللجوء بماتحويه من متاعبٍ ومشاق وغربةٍ
وشتات..
هذا ففى الثالث من يناير عام 2013 رحلت عن دنيانا الفانية
والدتى السيدة راضية سليمان عمر رحمها الله ففى صباح ذلك اليوم فقدنا اُماً
غالية أنجبتنا على شظفٍ من العيش، وربتنا تحت حياة اللجوء، فى مجتمعٍ يعيش
على الكفاف.
والدتى كانت مثالاً للمرأة الإرترية فى عفتها، ودماثة خُلقها، وعلاقاتها ووصلها، ونقاء سريرتها وحُبها الخير للجميع
كانت فوق ذلك وطناً بأكمله بحنانها والدفء وحكاويها المنصفة، وتمليكها لنا
تراث وقيم مجتمعى الكبير الساهو الذى أعتز به كثيراً، فغطت خانة والدى
رحمه الله الذى فقدناه ونحن فى مرحلةٍ مُبكرةٍ من العمر !
فوالدتى
رحمها الله ربطتنا جميعاُ بكل الأقارب والأهل بزياراتها لكل مكان فيه لنا
لُحمةُ وصلة ،وقد تشرفتُ بزيارتى معها لأول مرة تُراب الوطن الحبيب حيث
المنبت والجذور!
كانت ملاذُنا ورائحة أهُلنا وهذا ما يجعل الحُزن أشدُ إيغالاً فى التأثير وأكثره مُكوساً وتمدداً فى دواخلنا.
والدتى كان حِمُلها كبيراً من العملية النضالية منذ بواكير النضال التحررى
ضد المستعمر فعمى عبد الله داؤود كان من قيادات جبهة التحرير الإرترية فى
منتصف الستينات وكان قيادياً فى جهاز الفدائيين بجبهة التحرير ونفذ عدة
عمليات فدائية على مستوى الوطن طالت كبار رجالات الدولة فما كان من إثيوبيا
إلا وأن أصدرت حُكماً بالإعدام على الأسرة حتى يممت الأسرة إلى المنطقة
الغربية ورست بمدينة أم حجر تاركةً موطن أجدادها فعاشت والدتى حياة
المطاردة والتخفى هروباً من الإعدام ويمكنك عزيزى أن تتصور مشهد أسرةٍ
محكوم عليها بالإعدام وحالة أًمٍ تعيش حالة الهروب لتنجوا بأطفالها والوالد
كان حينها جندياً بجبهة التحرير، فتصور معى تلك المعاناة التى إمتدت حتى
بعد الإستقلال من حِرمانٍ عن الوطن وسلبٍ لأبسط حقوق المواطنة، والأمهات
الإرتريات أكثر معاناةً من الرجل فى ظروفنا الإرترية القاحلة بسبب أفورقى
وزبانيته...
وفى منتصف السبعينات من القرن الماضى بدأت الأسرة رحلة
اللجؤ الى السودان كملاذٍ من لهيب الحريق وألة القتل التى جابهت به أثيوبيا
شعبنا فى مدينة أم حجر( شمبلبلو ) وهنا تشكلت معاناةٍ أخرى فى محيطٍ خارج
أرض الوطن وتلك صفحة حياة سجلت فيها والدتى معنى الوفاء للوطن، ومعنى
الوفاء للقضية، ومعنى الوفاء للمجتمع.
إن والدتى رحمه الله فقدت رُكنها
وبكرها شهيداً بجبهة التحرير الإرترية وفى معركة أغردات بالتحديد كان
والدى حينها مناضلاً بصفوف جبهة التحرير بجانب إبنه الذى سبقه نحو الشهادة
أسال الله أن يتقبله وجميع شهداء بلادى إنه ضريبة وطنية دفعتها والدتى
فداءاً وتضحية للقضية والوطن فيالها من أم!
كان بيتنا فوق ذلك قبلة
للقيادات الإرترية والمناضلين حيث كانت تقوم والدتى على بساطة عيشنا بواجب
الضيافة على أكمل وجهٍ وأحسن ترتيب ووتتحمل معاناة ذلك بكل رحابة وسُرور بل
كانت والدتى رحمها الله تدخل على الأسر الإرترية فى الأحياء لتبحث عن
الشباب الهارب من الجنود بعد الإستقلال المشؤوم فتتحسس ظروفهم وتنقل ممن
ترى أن ظروفه صعبة الى ديوان الأسرة لتقوم برعايتهم حتى يشُقوا طريقهم
نحو الحياة! ياله من وفاء إنسانى راقى يجعلك تقف إجلالاً وتعظيماً له ليس
ذلك لأنها الأم التى أنجبتنى ولكن إحتراماً للدور الإنسانى الذى أستقيته
وتعلمته من خلال ذاك العمل النبيل الجليل.
والدتى علمتنا معانى
الرجُولة والشهامة حيث ربتنا على مشاركة الناس فى أفراحهم وأتراحهم وتقاسم
الهموم مع الأخرين فكانت مدرسة تخريجٍ للقيادة وليس هذا من باب المبالغة
فحسب ولكنه نتاج مدرسة الأمومة الذى أجادته والدتى بعناية .
فوالدتى
كانت عماد الأسرة وأساسها حيث كانت تقوم بدور الرجل بعد وفاة والدنا رحمه
الله مُبكراً فقادت الأسرة تربيةً وسلوكاً وتماسكاً بل سجلت مواقف كان لها
كبير الأثر فى تماسك الأسرة ونهضتها كل ذلك فى صبراٍ ومجالدة تحت ظروف
قاهرة !
ومايزيد حزنى والأسرة أننا فقدناها فجأة حين أينع ثمار نتاجها من الصبر والجلد ،
فقدناها وقد قوى عودنا لنقدم لها الوفاء بالوفاء ونعمل على إسعادها كما ربتنا جميعاً خصماً على راحتها وصحتها وسعادتها!
فقدناها فجأة حينما لاحت لنا فى الأفق تباشير دعواتها لنا فى الخروج والدخول والإتصال،
فقدناها بعد أن كانت محورإهتمامنا وسؤالنا وقبلة إتصالاتنا أينما حلت ورحلت،
فقدناها وفقدنا معها وصل الرُوح بالرُوح والقلب بالقلب،
فقدناها وفقدنا معها معنى الوفاء الصادق والنصيحة الغالية،
فقدناها والفقد هنا لاينتهى بالكتابة الممذوجة دموعاً أختلطت بحبرالكتابة
لتجعل الأوراق تُشاركنا الفقد فى تصويراٍ لمشهد إنسان إرتبط كل وجدانه
ورُوحه وجسده بإنسان! فياله من إرتباطٍ مُختلف وفقداٍ مُختلف وخاصةً معى من
بين جميع أفراد الأسرة لشدة تعلقى بها وتعلقها بى فسبحان الذى جعل لكُل
أجلٍ كتاب....!!
إن الأم الإرترية يشملها هذا الرثاء وهذه السطور
وكتابتى عن الوالدة هو إمتدادُ لكل أمٍ أرترية ناضل زوجها وأستشهد أبناؤها
وعانت من قسوةٍ فى حياتها ومن محيطها وفوق كل هذا عاشت فى حياة الغربة
بعيدة عن وطنها ومجتمعها فتحملت كل هذا فى سبيل الحفاظ على أبناءها وأسرتها
فطوبى لكل أمٍ أرترية تواصل مسيرة عطاءها بجلد وصبر والمغفرة والرحمة لكل
أُمٍ رحلت وتركت بصمتها للأجيال.
فى الختام ولو أن ذلك جاء متأخراً
فالشكر والعرفان أجزله بإسم أسرة (أل محمد سعد) لكل الذين شاركونا الدفن
بالخرطوم وتحملوا مجىء الوصول للتعزية إلى منطقة ودالحليو بشرق السودان من
الأهل والأقارب والأصدقاء من داخل السودان وأرتريا، والشكر موصول لقيادة
الحزب الإسلامى الإرترى للعدالة والتنمية الذين شاركونا العزاء لحظةً بلحظة
وكذلك للإخوة السودانين والجهات الرسمية بودالحليو على رأسها معتمد
المحافظة والشكر كل الشكر لقيادة الإتئلاف الوطنى الإرتري الذين ما قصروا
فى تواصلهم وتعازيهم والشكر لكل الذين إتصلوا معزين من أمريكا، وبريطانيا،
وهولندا، والنرويج، والسويد، وكندا ،وأستراليا، ولايفوتنى أن أشكر جميع
الإخوة الأعزاء الذين أتصلوا معزين من الشرق الأوسط. قطر،والإمارات،
والسعودية، والبحرين، فلهم منا جميعاً فائق الشكر والإمتنان ونسأل الله أن
لا يُصيبهم مكروهٍ فى عزيزٍ لديهم وجزاهم الله عنا كل خير....
مقالى القادم بعنوان:
ماذا عن قبائل الرشايدة فى إرتريا المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق