السبت، 6 يونيو 2015

بودينا : عادات وتقاليد .. أفراح وأتراح .. منها الصامد ومنها المقاوم ومنها ما إندثر الحلقة 9

 

 

بودينا : عادات وتقاليد .. أفراح وأتراح .. منها الصامد ومنها المقاوم ومنها ما إندثر


الخلاوي والأعياد والطرق الصوفية والأتراح في حياة القرية (6- 9 )
الحسين علي كرار
الحلقات نقلاً عن موقع فرجت

قال الله سبحانه وتعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) القرءان الكريم كتاب الله المنزل على رسوله الكريم  ليبلغ به البشرية عامة ، في القرية كان يكتب هذا القرءان باليد على الأوراق الغليظة الصفراء ، ومن يقوم بكتابته هم حفظة القرءان، ومن يشتهرون بالخط الجميل الذي يتفاخرون به ، و كتابة المصحف الواحد مكلفة في الزمن والمجهود ، فكتابة ثلاثون جزء باليد مع الضبط والرسم والعلامات والتنزيين بالألوان في الفواصل والآيات والحزب والثمن وربع الحزب ونصف الحزب والجزء عمل غير يسير ، و يكتبونه بالحبر التقليدي ، الدواية المصنوعة من الفخار  ، والمداد المخلوط من الصمغ والحمة السوداء المأخوذة من صياج الطبخ ، وبقية ألوان الأصبغة المتعددة  ، والأقلام بإختلاف حجم رأس السنّة فيها  فهي من قصب الذرة ، وبعد الإنتهاء من كتابته يتم تجليده  بالجلد الناعم ، ويزخرفون الجلد من الخارج ، و كاتب المصحف يأخذ مقابل ذلك رأس من الماشية الإبل أو البقر أو مبلغ من المال ، فهذا العمل الشاق من يطلبه ومن يقوم به كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ، ولهذا خلاوي تحفيظ القرءان كذلك عامرة بالطلبة المحليين والوافدين الذين يتبنونهم ، ففي الصباح يكتبون في الألواح ثمن أو نصف الثمن ، وبقية اليوم  يحفظون فيه ما كتبوه بالأمس ، وهم يتفاخرون بعلو الرماد أمام الخلاوي ، والحطب يجلبه الطلاب بالنهار لقراءة الليل ، فالخلوة مدرسة القرية وجامعتها ، ففيها يقرأون الفقه ، العشماوي والصفتي والأخضري والعزية والرسالة  وعلمائهم يحفظون كتاب خليل في الفقه المالكي – ومن هذا الكتاب الأخير يقال إستفاد نابليون الذي غزي مصر ووضع القانون المدني الحديث في فرنسا   – وكذلك يقرأون التوحيد  ويحفظون قواعد الإسلام ، وأركان الإيمان ، والواجب والمحرم  والمندوب والمكروه والمباح ، والصفات العشرين ، وكلها من ضرورات المعرفة في القرية عند العلماء .
وشهر رمضان المعظم الإمساك والإفطار فيه بثبوت رؤية القرية للهلال ، ويترقبون رؤية الهلال في كل شهر ، وعند رؤيته يقولون (هيييلل) ويرفع الصبية أياديهم وهم يرددون وينظرون الهلال (هيييلل إلاّ إديي دمان وإلاّ إديي قلب) (هيييلل هذه يدي اليمني وتلك يدي اليسري) وهم يعمهم الفرح ، ويتميز شهر رمضان بصلاة التراويح والأعياد (الصدقة) والتبرك (بماء كتوب) من المسجد حيث يكتب شيخ القرية كل يوم عصرا في لوح أيات من القرءان الكريم ثم يغسلها في الإناء وتوزع بالفنجان علي من يرغبون الإفطاربها فهي تمر القرية  ، وكذلك صدقة (الأعياد) وهي صدقة الطعام للأقارب المتوفين فيتذكر أفراد العائلة في هذا الشهر موتاهم وينقلون الطعام للمساجد أو أماكن تجمع الرجال والضيوف للإفطار ، وبعد الأكل يرفعون أياديهم إلي السماء بالدعاء للأموات ، وبعد صلاة العشاء تقام صلاة التراويح ، وبعد كل ركعتين يوجد فاصل يقرأ فيه دعاء يختلف عن الأول ثلاثة مرات ، مثل اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فعفو عنا ، ومثل صبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وربنا أمنا بما أنزلت والتبعنا الرسول فأكتبنا مع الشاهدين ، ووقت الإمساك يحددونه بمواقع النجوم  ( جهراي ) و ( كيما ) وبمناسبة العيد تغسل الملابس القديمة ،فتجد قبل العيد بيوم ويومين وقد إمتلأت موارد الآبار بالبشر الذين يتوافدون لغسيل ملابسهم ولا تجد حول الآبار موضع قدم إلا ووضعت فيه الملابس المغسولة المنشورة ، وتستقبل الفتيات ليلة العيد بوضع الحناء علي الأيادي حتي الإحمرار وليس السواد  ، ورائحة البخور (شويت) المعمول من الصندل والمحلب واللبان يعم القرية ليلا إذ تبخر به الملابس للرجال والنساء والأطفال ، ثم تطوي وتلف في السجاد (قلوت ) لتثبيت الريحة في الملابس حتي الصباح ، والعيد ( يوم واحد) اللهم في التهليل والتكبير في عيد الحج في أيام التشريق  والدعاء فيه (عرفة مكة وجدة – هب إتاّ ونسأ – هتا – تمطأ – وإنت طنح )
(إن شاء الله في القبول يكون لك العيد مثل عيد مكة وجدة أعطي وخذ فيه من عامه الجديد  ) ، وعرفة مكة وجدة تقال في العيدين عيد الفطر وعيد الأضحي ، و(عرفة تعني العيد)  وفي ليلة العيد وهي ليلة الفرح يقرأون المولد النبوي في المسجد  ، وفي عيد الحج يكون الفطور علي البليلة بالسمسم وبالحليب وذبح الأضاحي قليل حسب إمكانات القرية ، وكذلك يقرأ المولد  ليلة المولد النبوي الشريف في الثاني عشر من ربيع الأول ، ولكن رأس السنة الهجرية في شهر محرم  (معشورا) هي أشبه بالعيد من حيث الفرح والإهتمام بها  ، ففي ليلة عاشوراء تضع المرأة أمام منزلها أمتاد ( أوتاد) بعد أن تطليها بصبغة الجير الأحمر (حقرت) وتربط  في الأوتاد سعف وتعلق فيه حبات من بعر الماشاية وحبة البركة ، وتعلق هذه علي رقاب المواشي كذلك  ، وتوزع البليلة بالسكر والسمسم والحليب والسمن في هذا اليوم ، وفي ليلة بداية شهر صفر قبل النوم تقلب كل أواني الطعام والشراب في المنازل أو تغطي لأنها تعتبر ليلة غير طبيعية تعتقد القرية انها تعم فيها الأرواح الشريرة .
وللطريقة الختمية مكان كبير في قلوب القرية فهي تكاد تكون الوحيدة السائدة ، وزيارات السادة المراغنة للقري لها هيبتها وطعمها الخاص عند القرية ، فعند توجيه الدعوة للسيد يقومون بعمل الطريق الذي تسير عليه سيارته بعمل جماعي ، من المدينة إلي القرية ، وتستقبله النساء بالأغاني ، مضمونها ( مرحبا بك أيها السيد/ .. فلان .. أنت الولي وأنت السلطان ) و ( سيدي يشبه والده ووالده يفسر القران ، فمرحبا به ) وعند قدومه ينزل السيد في وسط القرية في مسجد خاص يبني للزيارة بالبروش ويزين من الداخل بكافة أنواع الحرير والريش ، ويسوّرونه  بسور من البروش ، وتكون خيمة للطباخ والمرافقين ، و يحفرون مرحاض داخل السور ، وفي الصباح التالي يخرج السيد من المسجد في الساحة ويجلس في السرير، وجميع سكان القرية يجلسون أمامه ، وتعرض الشكاوي ، و ترفع الأيادي لقراءة الفاتحة ، لكل شكوى ، اللهم تقبل منا الدعاء ، وتخرج التبرعات بالرؤوس من الماشية  والأنصاف والأرباع أ و بمبالغ من المال ، ويعمل الخلفاء بتسجيلها وجمعها ، ومن النوادر كانت للسيد / بكري المرغني بعد وفاته  مواشي في إحدى القرى ، ولم يسأل عنها أحد ، وكانت ترعى عند عائلة من الرعاة بأمانة حتى الثمانينات ( أحتفظ بإسم القرية والعائلة ) ، وقد جاءوا للسيد الحسن المرغني في كسلا ، وأخبروه بوجود هذه الماشية ، يقال سألهم هل كنتم تأخذون منها أجوركم قالوا (لا) هل كنتم تزكونها قالوا (لا) لم يأمرنا أحد بذلك ، فقال خذوها هنيئا فهي لكم ، فعلاقة القرية بالمراغنة لها خصوصيتها وإحترامها ، وكل مدائح القرية هي للطريقة الختمية ، مدائح تقرأ جلوسا ومدائح تقرأ وقوفا ، فالمدائح التي لاترافقها الطبول تقرا جلوسا ، مثل يارحلين إلي منى بفؤادي ، أو بحقك يا طه نرجّى المقاصدا ، وصلاة صلاة على المصطفى ، وكذلك مدائح الجباجيب ، مثل كرّ صلى الله عليك يانبي ، والجباجيب هو قدح كبيرمن الخشب مغطى بجلد البقر أو الإبل يضربونه بالعصا ، ولكن مدائح الطبول تمدح بالوقوف مثل شوقي له في الطيبة سلامي له نبي الله ، وتوجد قصائد في المدائح تهيّج دراويش القرية مثل صلينا على النبي صلينا على الرسول ، صلينا على الحبيب صلينا والسلام ، فتجد فجأة قفز أحدهم في النار التي يتحولقون حولها عند سماعه لهذه القصيدة ،وهو يبكي ويصرخ بصوت عالي ويبعثرها وهو غارق ، ويقومون بإمساكه ، ثم إبعاده حتى يهدأ وقد لا يحضر ، وفي هذه الليالي تجد القهوة وشاي اللبن شراب الليل ، ولا يحتاجون جمعا للأكواب فكل حاضر بفنجانه في جيبه أو في عمته أو مربوط في ثوبه ، والأطفال بفناجين أمهاتهم ، وقد يصادف أن يعكر مزاجهم أحد الدراويش فيكسر جبان القهوة ويسكب الحليب بقدمه فوق النار .
وكل أيام القرية ليست أعياد وأفراح ، فهناك كذلك فقدان العزيز الذي يختطفه الموت ، فخيمة الفراش للنساء تكون خلف المنزل عكس الزواج الذي تكون أمام المنزل , والقادم يعرف هذا فراش دون سؤال ، ومدة الفراش سبعة أيام وفي اليوم السابع يرفعون الفراش ويختمون القرءان ، وفي هذا اليوم تذبح المواشي كصدقة ، وحتى الأربعين  يتصدقون في الصبح والمساء للميت بالطعام الجاهز الذي يحمل إلى مسجد القرية ، وترفع الأيادي بعد الأكل بقراءة الفاتحة والدعاء للميت بالغفران  ، وكذلك يتذكرون الميت بالصدقة في الحول ، والبكاء على الميت يختلف من شخص لأخر،  و يكون بضرب الصدر والولولة ووضع التراب في الرؤوس ، وعندما يموت شخص من الأعيان أو شاب يقولون عنه دمه حار  ، يدقّ له الكبّور  ويرقصن النساء (دفن) بفتح الدال و الفاء وسكون النون يصاحبه لبس ملابس المتوفى من سروال وقميص وصديرية وثوب وعمامة والسيف ، وشعرالندب  هنا يسمى (التروك ياييت) وهو شعر ندب يظهر شجاعة ومناقب المتوفى ، ولا يحبذها العقلاء والشيوخ ، وتكون غالبا مناوشات بين النساء الشديدات بسيوفهن والرجال العزل ، وهذه العادة يتوقف القيام بها على رغبة أهل المتوفي وحبهم للعظمة والتميز ، وليست قاعدة ، والشيخ الذي يصلي على الميت صلاة الجنازة نصيبه من الذبيحة الصدر الذي يعرف باسم (تدع) وبعض النساء لا يبكين وخاصة كبار السن ويقال عنهن أخذن التوبة ( توبت نسأت) فلا يلومونها فهي تجلس للمواساة فقط ، والحزن يسود النساء أقارب الميت لزمن طويل فلا يتطيبن ولا يتزينّ ويلبسن الملابس الثملة ، ويقولون عن ذالك (حبيت) حزن ، وإذا توفى أحد المراغنة ، فإن البكاء والحزن والدفن والكبور والتروك ياييت ،يعم ويسود كل القرى دون حزن (حبيت) .
ولكن القرية ما يميزها تدين رجالها الذين يرددون بعد صلاة الصبح في الشفق وبعد صلاة المغرب في الغسق وفي اياديهم المصابح وأمامهم أباريق الطين وهم جلوس فوق السجاد ووجهتهم القبلة مهللين موحدين مرددين – لا إله إلا الله محمد رسول الله .

ليست هناك تعليقات: