السبت، 6 يونيو 2015

بوادينا..عادات وتقاليد.. أفراح وأتراح..منها الصامد.. ومنها المقاوم .. ومنها ما إندثر (2-9)


بوادينا..عادات وتقاليد.. أفراح وأتراح..منها الصامد.. ومنها المقاوم .. ومنها ما إندثر (2-9)



الماشية في حياة القرية  (2-9)

بقلم: الحسين علي كرار
الحلقات نقلاً من موقع فرجت
تعتبر المواشي عصب الحياة للقرية ومن أجلها يتنقلون بحثا عن الماء والكلأ ، ومن أجلها يكابدون المشاق، ومن أجلها يضحون بأرواحهم لحمايتها ، بعصيهم وفؤوسهم وسيوفهم ورماحهم ورصاصهم فالمواشي هي حياتهم وهي الوسيلة لإشباع حاجاتهم ، فبها يزرعون وبها يتنقلون وبها يشبعون بطونهم من ألبانها ولحومها ، و بجلودها ينتفعون، ومتي إحتاجوا باعوا منها لتغطية نفقاتهم ، من أجل ذلك يتفانون لرعايتها والحفاظ عليها ويتوارثها الأبناء عن الآباء  دون تفريط ، فمتي ساءت المواسم وشحت الأمطار وتأخرت  وعمّ الجفاف تتأثر حياتهم  في الرعي والزرع ، فتجدهم يتضرعون إلي الله ، ويكثرون الدعاء ويلجئون إليه سبحانه وتعالي  أن يغيثهم وينزل المطر للزرع والضرع ،  فتعمل النساء في المنازل في الصباح كرامة البليلة والقراريص، ويذبح الرجال الذبائح الصغيرة وتنقل إلي المساجد التي يعتكفون فيها متضرعين ومستغيثين ، و في الظهيرة يخرجن النساء  حول القرية ويتجمعن تحت الأشجار ويعملن الكرامة بالبليلة المغلية من جديد ، ثم يطفن حول القرية وهن يرددن أناشيد (يا الله يا عفو من حليب جقفوا) ، و(أبري أبري فقرنا دبري ، ومن طباب فقرنا ديب رحاب) معناها  (يالله عفوك ، وأن تغيثنا ونغرف من الحليب ونخرج من الضيق) وبعد ذلك ينصرفن إلى بيوتهن قبل غروب الشمس .
والحليب هو المادة الأولي الذي لا تخلو منه الموائد ، فيشربونه (مطيق أومالح أوراقئ) وهو ملاح العصيدة والقراصة ، ويستخرجون منه الزبدة لأطفالهم الرضع ، و يحولونها  إلي سمن بعد أن توضع علي النار مع جريش الذرة (العجين غير الناعم) ، فيفصلون السمن عن مخلفات اللبن ، وهذا الجريش بعد إستخلاص السمن منه ، يسمونه (حسنية) ويكون شكله مثل حلويات الفريكة البسبوسة ولكنها مالحة ، وهي حلويات الأطفال المحبوبة لدسمها ، والسمن للشراب والطبخ والبيع والمنشوع (بالأنف للحفاظ علي قوة البصر)  ولا يستخدم السمن والزبدة كدهان للشعر، ويعيرون من يستخدمهما كدهان بالعفن ، فالدهان للمرأة والرجل يكون بالشحوم (ودق) البقر والإبل وأيضا الزيوت للمرأة ، بعد تعطيرها بالعطور الجافة والسائلة.
والحليب يحلب في (العمور) وهو وعاء مصنوع بالنّسج من سعف النخيل بشكل القدح  و (الإفا) وهو الأصغرمنه  ولا يحلبون في الكواري والجرادل لأن أصواتها مسموعة  و تبين الغزارة  فتجلب العين والحسد ، والرغوة تعتبرإسكريم الأطفال التي يتقاتلون عليها – كما يتقاتل كبار الحضر علي رغوة الكابتشينو – و حليب (الشبيق) وهوحليب الماشية حديثة الولادة ، يكون جامد الشكل كالعسل في الأيام الأولي للولادة  فهو لرضيعها، ولكنهم يحلبونه ليفرحوا به الأطفال الصغار فبعد أن يوضع علي النار يصبح علي شكل البيض المغلي لذيذ الطعم ، وهو ما يعرف (بجبنة الحلومي) في الحضر وبعد أيام يتحول إلى حليب نبول بطعم السكر وبمرور الأيام يصبح طعمه عادي ، وعند ما يغلب علي طعمه الملوحة يسمي حليب عشار فيتوقفون عن حلب الماشية ، وهناك (ماي برّه) وهو عندما يكون الشخص عطشان وفي نفس الوقت يشعر بالجوع لا يشرب الماء إلا أن يخلطه بالحليب ، وهو يروّي الظمأ ويمنع المعدة من الإضطراب ، ومن العرف أن المرأة لا تحلب ولا تذبح ولا تسلخ فهذا يعيبها ، ومن التقاليد بعد الحلب مباشرة يسلّم الحالب العمور لشخص علي يمينه من الجالسين ويقول له (باشر) فيأخذ هذا شرفة أو شرفتين من الحليب ثم يضع العمور ، ومن التقاليد عندما يكونوا جماعة يشربون الحليب وهم جالسين دائرة (حلقة) فيأخذ من معه الحليب شرفة ويناوله علي من بيمينه وهذا يفعل نفس الشئ حتي يشبعوا ، وشراب الفرد وحده ليس من التقاليد ويعيبهم ، فالشراب جماعي ، ومن يحلب لنفسه ليشرب وحده يسموه (طباي) بمعني (رضّاع المواشي) كإهانه له ، ومن هنا جاء المثل ، ومن كان وحده من الرعاة ، يعلم من حوله ذلك حسب التواصل بينهم ، فيأتي إليه أحدهم ليشرب معه ،  ومن يملأ أشداقه بشرفة كبيرة يسمونه (جقام) شره ، لهذا لا بد أن يسود الأدب في الشراب ، والعمور هو وعاء الرعاة ، يشربون به الماء والحليب ، وبالحجارة الساخنة يسخنون فيه الحليب ، وكذلك بالحجارة الساخنة يغلون فيه اللحوم ، والعمور كل يوم في الصباح  يدخن علي نار هادئة حتي يتحول الحليب العالق به وكل المخلفات بين شقوقه إلي دهان سائل وحتي تخرج  الرغوة من جهته الخارجية وينقط علي الأرض الدهان ، بمعني أنه يأخذ نار زائدة وتسيل كل الأوساخ العالقة فيه ، وتطيب رائحته ، فيحلبوا فيه بعد ذلك ، وإلا ، لا يحلبوا فيه ولا يشربوا منه لأنه عفن الرائحة، وسيسبب لهم الأمراض  .
وبما أن اللحوم في القرية نادرة من التقاليد أيضا إذا وجدت لدي أسرة (ما) لا بد أن توزع منها لحوامل القرية مهما كانت القطعة صغيرة ، فالإعتقاد أن الطفل يشم رائحة اللحم وهو في بطن أمه ، وكذلك الحامل  نفسها تكون والهة للحم ، وكلمة الوله المستعملة في الغزل أساسها من وله الإبل وحرقتها وشوقها ودموع عيونها ، لأن للناقة حنين زائد عند ما يبتعد عنها صغيرها أو تفقده فيكون بكائها بشوق وحرقة  شديدة و دموع ، ولا يتوقف فمها عن البكاء لعدة أيام ، وكلمة الهيام مأخوذة كذلك من هيام الإبل للملح ، فالإبل لا بد أن تعطي الملح كطعام لها بعد كل شهرين تقريبا ما يقدر بربع كيلو لكل ناقة ، فإذا لم تجد الملح تكون تائهة ولا تأكل ولا تشرب وتشرد بحثا عن التربة المالحة والأشجار الحامضة فيسمي هذا الضياع هيام ، فاستعارالعرب هيامها وولها  للغزل ، وكذلك من القيم (المنحة) يمنحون حليب ناقة أو بقرة أو ضان أو شاة  للأقرباء والمساكين أصحاب الحاجة  فحليبها سبيل  لهم ويسمونها (منحت).
والله سبحانه وتعالي قال في سورة النحل الأية 66 ((وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)) .
وبما أن الإبل هيامها وولهها ولبنها جزء من حياتهم ، إستلهموه في أغانيهم الشعبية ،فشبهوا المحبوبة بالناقة وبلبنها (قرسا حليب إنسا قرسا ، قرسا ولت عوبلت  قرسا) فالقرسا هي الناقة الحمراء ، وعوبلت الغابات مضارب الإبل ، كذلك نجد في الفروسية تشبيه العشيرة بلون الإبل ، قالتها أخت أجولاي تفتخر بعشيرتها وتدافع عن أخيها (حماسين درهويت مدور فرّه من أدام) فعشيرة الحماسين الغبش لا تخاف من بشر ، فكلمة درهويت ، لون الناقة الرمادية  الغبشاء ، و الفنان ود أمير نجده يقول (إقل فتوي وفاتي إقل حموم بعل نيت حليب إنسا نبايل كروي إتّ زبديت) (للحبيب والمحبوبة وللمريض المعلول ، حليب إبل النبايل في الكورية دواء الجميع) وكذلك نجد في أغاني مسمار يقول (ولت كمتي كمّ دهباي صافي بلم ودّي) معناها (بنت الأبالة ضوءها كلمعان صافي الدهب) فكلمة (كمت) بالبداويت هي الإبل فنسبها إليها ، وقد يكون إسم لمكان مضارب الإبل  ونجد هنا الإرتباط  الوثيق بين الغزل و الإبل، وتشبيه المحبوبة بها ،ويستحضرني هنا الناقد المصري فاروق شوشة في كتابه (أجمل عشرة  قصائد حب في الشعر العربي) أعتبر فيها قصيدة للبدوي المنخل اليشكري التي من ضمن أبياتها
أحبها وتحبني   ويحب ناقتها بعيري
أعتبرها حسب بئتها  من ضمن العشرة قصائد التي إختارها كأجمل شعر عربي قيل  في الغزل  ، ووضعها مع قصائد مثل قصيدة يزيد بن معاوية التي يقول فيها
وأمطرت لؤلؤا من نرجس   وعضت علي العناب بالبرد
ويقول شوشة في نفس القصيدة إن هذا الأمير يزيد بن معاوية  عندما يقول في بيت أخر
إن يحسدوني علي موتي فوا أسفي      حتي علي الموت لا أخلو من الحسد
يقول هذا غرور أمير
ولكن تلك البدوية التي لم يعجبها غرورهم وحياتهم صفعت هذه القصور عندما تزوج والده معاوية بن أبي سفيان بدوية أعجبته ولكنها لم تعجبها حياتهم ، فأنشدت تقول
ولبس عباءة وتقر عيني  أحب إليّ من لبس الشفوف
وبيت يعصف الرياح به  أحب إليّّ من قصر منيف
وأكل كسيرة من كسر بيتي   أحب إليّ من أكل الرغيف
وكلب ينبح الطراق دوني  أحب إليّ من قط أليف
فلما علم معاوية بذلك طلقها وذهبت إلي خيامها وأهلها وخبزها وحليبها ونباح كلابها وهوائها الطليق ، فهذه هي عزة البوادي .

ليست هناك تعليقات: