السبت، 6 يونيو 2015

بوادينا..عادات وتقاليد.. أفراح وأتراح..منها الصامد ..ومنها المقاوم .. ومنها ما إندثر

 

بوادينا..عادات وتقاليد.. أفراح وأتراح..منها الصامد ..ومنها المقاوم .. ومنها ما إندثر

 

حياة القرية ومعاشها (1- 9 )

بقلم: الحسين علي كرار
الحلقات نقلا عن موقع فرجت
هذه القرية الهادئة التي يعمها الليل والسبات والنوم العميق ، النجوم والقمر والثريا والكواكب بوصلة المسافرين, أسلمت الروح هنا إلى بارئها بعد عناء طويل في نهار مرهق وشاق على الأنفس والأعصاب , حياة طبيعية يعمها نسيم أشجار السدر وأشجارالأراك والهتشاب والكتر واللالوب والدوم , والهواء اللطيف ، وقد تحصنت بتهليل الشيوخ في المساجد وأمام المنازل بالتعويذ والتكبير والتسبيح والتهليل من الفلق، ومن شر ما خلق ، ومن شر الغاسق إذا وقب .
وقد اتخذت التدابير عند الغروب ، فلا يسمح بكنس المنازل ، ولا بخروج الماء والنار للجيران حتى زوال الغروب ، ولا النظر في المرايا أثناء الليل ، ولا بخروج الطفل وحده خلف المنزل ، خشية عليه من رؤية القوي الخفية التي تحب الصبية وتظهرلهم في هذه الأوقات ، فيصاب ، فيصاحبه أحد الأبوين أو أحد الإخوة الكبار، وكأنهم قرأوا علاقة الملح بالبحر وبعفاريت السندباد ، فلا تستخدم عندهم في هذا الوقت كلمة ملح لأنها (سرع تا) محظورة ، فتستخدم كلمة مملحت أو إنسا وردا .
وقد عقلوا الجمال والإبل ، وأدخلوا الأغنام والضان في الحظائر ، وربطوا الحمير ، وتركوا الأبقار في باحات المنازل ، وأشبعوا الكلاب الحارسة ، وبعد إتخاذ كل هذه الوسائل الإحترازية من الإنس والجن ، نامت القرية هنيئة مريئة مطمئنة .
و تركت حولها في هذه العتمة حركة الحياة لخلق أخرين, تبدأ بحركة الوطواط في أعشاش المنازل , ونعيق الضفادع في المياه , وعواء الذئاب والثعالب في الضواحي ، والخنزير البري الذي يخرّب المزارع لتبريد جسمه على أغصان الحبوب المزروعة ، والقط البري (نيني) الذي يتفرغ لإصطياد الدجاج من الأقفاص ، ولا يفك فريسته مهما تم إيذاءه وإيلامه بالضرب ، ولهذا (شبهوا الشخص الأناني ، بالنيني) .
وقد خرجت الكثير من دواب الأرض التي لا تراها العين في الظلام ولا يسمع دبيبها أو حركتها , تبحث في هذه العتمة عن طعامها وشرابها, وبعضها يبحثه في موارد الآبار وحظائر الأغنام وسط هذا السكون ، فتطاردها الكلاب ، وعندما ترتفع الأصوات ويختلط النباح والغثاء والنهيق يستيقظ القرويون ويسرعون لحظائر أغنامهم ومواشيهم الباركة في ساحات المنازل ، فيطمئنوا ويعيدوا كرّة النوم , وقد فقدوا شاة أو حمل ، أو قطعة لحمة إنتزعها الذئب من مؤخرة الناقة أوالبقرة أو الحمار، فيسرعوا بإشعال النار وتسخين المناجل ليكووا بها المكان المصاب , ويقوموا بمطاردة الذئاب وسط نباح الكلاب .
ومن هذه المخلوقات من يبحث في الظلام عن الهواء العليل ويتنفس وسط الأعشاب و رحيقها, وقد خرجت الثعابين من جحورها الساخنة تبحث عن البرودة في الرمال وتراب الطرق التي أنعمتها أقدامهم المسافرة ، وقد تركت خلفها قمصانها المسلوخة عن جلدها بعوامل الطبيعة وسط الأعشاب وغصون الأشجار , فإذا أصابتها قدم عابرمنهم في الطريق لدغته , وقد قالوا عنها المثل الشعبي (باره قبأ وإت قبي سكب) (كن أبيض القلب ثم نوم وسط الطريق لا تلدغك الثعابين) والثعالب التي لا تأكل غالبا إلا من فضلات ما تتركه الذئاب وتعوي خلف عوائها لا تسخر إلا من الذئاب , فقد أوجدوا لها كذلك مثلا شعبيا على لسان الثعلب المكار ، والقصة أن الذئب رأي ثورا غرست أقدامه في رمال الوادي الناعمة , فقفز عليه ليفترسه , ولكنه سقط قبل الوصول إليه في الرمال , فلما سمع الثعلب عواء الذئب ، جاء مسرعا وضحك ساخرا من منظره وفضلاته البيضاء التي يغطي بها الرمال ، وقالوا على لسانه المثل الشعبي (بكاي كا أدي إيكو ، أمعل بعلاّ بعراي متآ تو) (بكائك ليس الآن ، وإنما عند قدوم صاحب الثور).
ومتى أحست هذه المخلوقات بخيوط الصباح ، إنسحبت إلى أوكارها وتركت الإشراقة لأهل البشر , وساعة المنبه في عقل الديك الذي على صياحه يقوم أهل القرية لأداء صلاة الفجر, هذا الديك الذي يبشر النائمين بقدوم الفجر الجديد (كو كلوك كوك) فتدب الحياة من جديد في الأعصاب التي استرخت ونالت راحتها واستعادت نشاطها وحيويتها ، فتسمع التهليل والتكبيرمن أمام المنازل ويتدفأ كبار السن مع الصغار إن كان شتاء على وقود الحطب الذي يسمى (بره) ويجهزون من جمراته جبنة الصباح ،ويشربون (أول وداقم وهممشيك) وبعدها ينطلقون إلى أعمالهم .
فيبكرن الفتيات قبل مجيء الرعاة ويتسابقن بالحمير إلى موارد الماء ويحملن القرب التي تسمي (حرب) والمصنوعة من جلد الغنم المدبوغ بغلاف أشجار السدر الأحمر وكلما تآكل وقدم صغر حجمه وتم ترقيعه ويسمى (كربن) ويضربون به المثل للشخص الناشف البخيل وقليل المروءة فيقولون عنه (كربن) ويوضع الحرب في شبكة تسمى (سقعيت) – وبعد ذلك يأتي سقاة المواشي بدلائهم الكبيرة بئر أو عدة آبار مسقفة من الداخل بالجريد لكيلا تنهار، و تقام الجداول لشراب المواشي حولها فالصغير يسمى (شموي) والكبير يسمى (تبار) فالشموي للقطعان الصغيرة كالأغنام ، أما التبار فهو للقطعان الكبيرة كالإبل والأبقار، وقد جاءوا بالمثل (عيلا إت شمويا إي تحدي) (لا تطلب البئر الماء من حوضها) و يقال المثل في طلب الماديات ، وتجد هنا تحت ظل الأشجارالكبيرة المحيطة بالآبار حياة الطرب بين الشباب الرعات ، الأغاني والربابة والمزمار ورقصات الفروسية.
والمزارع يصحو مبكرا ويعد محراثه ويتفقد ثوره أوجمله بعد تناول الفطور المشبع وبعد أن أخذ معه زاد الغداء ، ينطلق فهو في سباق مع الشمس ، وقبل أن تبدأ حرارتها يبدأ الحرث برمي التيراب وشق الأرض بالمحراث ، ثم يأتي بعد ذلك موسم الحش وهو التنظيف من القش ، فيكون النفير الجماعي لقصر المدة ويسمي (بالكيوة أو بالكبن) تتخلله الأغاني للتنشيط (إلا ولت تبي إلا ولت تبي يا هو مي تبي؟ حرس بركا نيتيي إيكو وقلبيي تبي) ثم يأتي الحصاد ومطاردة الطيور بالأقمشة التي يشكلونها على شكل الدمى لإيهام الطيور بأن الدمية الواقفة إنسان ، وكذلك برمي الحجارة من أعلى الراكوبة (العريش) التي يقيمونها وسط المزرعة ، ويحمل الحاصدون القفه في الجهة اليسرى من الكتف ( وتسمى شقربيت) ويقطع بيده اليمنى ويضع بسهولة الجندول في القفه يساره ، وعندما تمتلأ ينقل ما قطعه إلى مكان الجمع ، ومنها تنقل بعد ذلك إلى مكان ضرب الجناديل بعد أن جفت الذرة ، فيختار مكانا عاليا ويقوم بتنظفه ، و يطليه بعجين بعر البقر من التراب ، ويعتقد من يشاهده أنه مطلي بالأسمنت وتكون الأرض ثابته ويختفي الغيار والتراب ، ثم يبدأ بضربه بشقيق عريض ينزع غالبا من شجر التبلدي وبعد ذلك يبدأ بفصل الأعشاب الصغيرة عن الذرة عن طريق رفع الأطباق إلى أعلى من هامة المزارع ثم صبه للأسفل في الهواء ، فتسقط الذرة وتذهب الأعشاب الصغيرة مع الهواء لتكون علف المواشي ، هكذا تعب وجد وإرهاق في عمل شاق لغذاءه السنوي ، يأكل منه ويبيع منه لتغطية حاجته الضرورية ، أما الذين لا يزرعون فإنهم جلابة إما الذهاب إلى شلالو التقراي وإما القضارف ، لإحضار الذرة ، وقد شدت جلابة الملح بدورها من الساحل إلى بركة والقاش ويعرفون مواقع أهل الإبل ، فإما ملئ ملئ ، وإما ملئ كلئ ملئ ، (كيلة ذرة مقابل كيلة ملح أوكيلتين) وعند خروجهم وهم يقودون جمالهم في سفرهم الطويل لا ينسون أن يقولوا – ربي ونبي وشيخ عبد القادر الجيلاني .
أما الرعاة بعد حلب المواشي فينطلقون إلى المراعي ، وفي فصل الخريف تعود كل المواشي من سيتيت أو أعالي القاش أو سبك ساقم ، إلى القرية لتوافر الكلأ والماء ، وتجد في الصباح تتعالى الأدخنة وسط المواشي لمطاردة الذباب المزعج لها ، ويأتي الخوف من عين الحسود والمواشي أمام المنازل ، فتجد البعض يعلق المصحف بين عمودين ، فيمرر الإبل والبقر من تحته ، وهي الكنوز التي لا تباع إلا عند الضرورة وخاصة الإبل كما يقولون (إنسا قيّح من لحّدوّا تتركب) (النوق الحمر من يطلبها لا يجد ها) أما الضان والماعز تعتبر بالنسبة لهم من صغار العملة تحلب وتباع وتذبح ، وهي غالبا لا تكون بعيدأ عن القرى في المرعى إلا إذا كانت قطعان كبيرة ، وعند العودة في المساء في ضاحية القرية ، تجد قد بدأ السباق بين الأبقارالمختارة وكذلك الهجن بين الجمال ، وسط إخضرار الأرض وضحكات الشباب وصرخات وفرحة من فاز، وقد ربطت الأجراس في أعناق أجمل وأسمن الأبقارالتي يحبها الراعاة ، ويدوي أصوات رنينها وسط الأبقار (كلن كلن كلن) إنها حياة جميلة ، وقد وصفها الشاعر ادريس جماع في قصيدته :- نومة الراعي
في مرقد طافت به الأحلام مشرقة الـــــصور
للنوم قد أسلمت رأسك مطمئنا للقــــــــــــــدر
سال الشعاع من الغصون على جبينك وإنحدر
وغرقت في نسيم تعوّد حمل أنفاس الزهـــــــر
أغنامك المرحات تقفز في الروابي والحفـــــــر
كم وقعت أقدامها في الأرض أنغام المطــــــــــر
هو عالم من حسنه يوحي الجمال المبتكـــــــــــر

ليست هناك تعليقات: